بقلم المحامي عبد الرحيم ناشف
عند الحديث عن الجوانب القانونية لتأسيس وعمل الشركات الناشئة، فان هناك العديد من المواضيع الشائكة التي يتوجب على هذه الشركات معالجتها وتوخي الحذر في التعامل معها. في العادة، تتركز جهود الفريق المؤسس للشركة الناشئة بتطوير منتجها وتحضيره لإختراق السوق أو بالبحث عن استثمارٍ لدعم نموّها فيفوتها أحياناً جوانب أخرى لنشاطها، لعل أهمها – الجانب القانوني. وقد يسبب ذلك لاحقاً ثغراتٍ قانونيةٍ من شأنها أن تعيق نمو الشركة أو أن تحول دون إخراج مشروعها الى حيز التنفيذ.
من خلال تجربتنا في العمل مع المئات من الشركات الناشئة، المحلية والعالمية على حدٍ سواء، نلمس تكراراً لبعض الأخطاء التي يقع فيها مؤسسي هذه الشركات تتعلق بالجوانب القانونية لمشروعهم. وتتشابه هذه الأخطاء برغم اختلاف نشاط الشركات إذ نراها في الشركات العاملة في مجال السوفتوير والتطبيقات تماماً كما في الشركات العاملة في مجال تطوير المعدات، الأدوية والأجهزة الطبية، انترنت الأشياء وغيرها. ولهذه الأخطاء تداعياتٍ سلبيةٍ قد يكون لها أثراً كبيراً على نمو الشركة وإمكانيات نجاحها وأحياناً حتى على تحديد قيمتها الإقتصادية. ولتجنب ارتكاب مثل هذه الأخطاء، من الضروري الحصول على الدعم القانوني في المراحل المبكرة من نشاط الشركة بالتزامن مع بدأ العمل على بلورة الفكرة.
حماية الملكية الفكرية: ولعل المحور الأهم الذي تحدث فيه الأخطاء الأكثر شيوعاً هو إدارة حقوق الملكية الفكرية، وهي حقوق قانونية تمنح حماية للاختراعات والإبتكارات الناتجة عن الإبداع العلمي، الفكري، الأدبي والصناعي. بعض مؤسسي الشركات الناشئة لا يولون أهمية كبيرة لكيفية التعامل مع حقوق الملكية الفكرية واستخدامها ضمن مشروعهم أو أنهم غير مدركين أصلاً لاستخدامهم لحقوق الملكية الفكرية، سواء تلك التابعة للشركة أو التي يتم تطويرها من قبل جهات أخرى كمقدمي الخدمات والموظفين وغيرهم. وليس القصد هنا تسجيل براءات الإختراع أو حقوق النشر والمؤلف أو العلامات التجارية فحسب، بل أيضاً مركباتٍ أخرى من حقوق الملكية الفكرية غير القابلة للتسجيل والتي يجب حمايتها وضمان تملكّها من خلال آلياتٍ قانونيةٍ تستوفي المعايير اللازمة وتضمن للشركة حرية استخدامها، لا سيما وأن حقوق الملكية الفكرية في الشركة الناشئة التي تعمل على تطوير منتج تكنولوجي هي أحد أهم مركباتها. تذكّروا أن أي شركة ناشئة تعمل على تطوير منتج تكنولوجي دون الإستناد على حقوق ملكية فكرية تم حمايتها بموجب المعايير اللازمة، حتماً لن يكون نصيبها النجاح.
العلاقة بين المؤسسين: هنالك خطأٌ شائعٌ آخرٌ يقع فيه الكثير من رواد الأعمال عند إقبالهم على تأسيس شركةٍ ناشئةٍ ألا وهو عدم تنظيم العلاقة القانونية بين مؤسسي الشركة (co-founders). فالبعض يتعمد عدم الخوض في مواضيع شائكة تتعلق بالعلاقة بين أعضاء الفريق المؤسس لتفادي المواجهة بينهم وأي إشكاليات قد تنتج عن ذلك، والبعض الآخر يلجأ الى إبرام اتفاقيات غير مناسبة لطبيعة المشروع. ولكن في الواقع لا مفر من تناول هذه المواضيع والتفاوض عليها عند بدء العمل على المشروع، حيث أن أي خلاف ينشأ بين المؤسسين سيكون له حتماً تداعيات سلبية كبيرة على الشركة وعلى المؤسسين أنفسهم في حال لم يتم تنظيم العلاقة مسبقاً ضمن الإطار القانوني المناسب. ونرى كثيراً كيف لمثل هذه الخلافات أن تأثر على عملية تجنيد الإستثمار في الشركة وبالتالي إعاقة نموّها، وفي الحالات الأكثر تعقيداً، قد يؤدي ذلك الى وقف نشاط الشركة بشكلٍ تام. ولتجنب احتمال حدوث خلافات مستقبلية كهذه، يتوجب على المؤسسين عند بدء العمل على مشروعهم إبرام اتفاقيات بينهم تشمل آلياتٍ قانونية خاصة تتعلق بمسؤولياتهم في الشركة، أسهمهم فيها وأمور عديدة أخرى، يتم ملائمتها مع طبيعة المشروع، الفريق المؤسس ونوع الشركة، مع ضرورة مراعاة المعايير المتعارف عليها في عالم التكنولوجيا ورأس المال المجازف (venture capital).
البنية القانونية: يمنح تسجيل الشركة ريادي الأعمال إمكانية تنفيذ مشروعه من خلال كيانٍ قانونيٍ مستقل لتطوير وطرح المنتج أو الخدمة في الأسواق دون تحمل المسؤولية الشخصية (باستثناء حالات ينص عليها القانون). ومن بين الأخطاء الشائعة التي يقع فيها البعض في هذا السياق هو اعتماد هيكل قانوني غير مناسب أو تسجيل الشركة في دولة ذات نظام أو قوانين غير ملائمين لنشاطها ولاعتبارات أخرى ذات أهمية حاسمة. في الكثير من الحالات تجد الشركة نفسها مجبرةٌ على تصحيح هذا “الخطأ” في مرحلة لاحقة، ما قد يؤدي الى بعض التعقيدات الضريبية والقانونية التي تحمل تكاليف باهظة تكون الشركة في غنى عنها. ويبقى السؤال: ما هي البنية القانونية الأنسب التي يجب اعتمادها وفي أي دولة (وحسب أي أنظمة) يُفضل تسجيل الشركة الناشئة وما هو التوقيت الأمثل لذلك. والإجابة على هذه الأسئلة تحدد وفقاً لكل حالة على حدة، فهي تختلف باختلاف الاعتبارات الخاصة بالشركة، كنوع نشاطها، التخطيط الضريبي للشركة كما للمساهمين فيها، بالإضافة الى اعتبارات أخرى.
إدارة المستندات القانونية: بعض مؤسسي الشركات الناشئة لا يدركون أهمية إدارة المستندات القانونية الخاصة بالشركة. إلا أن هذا الأمر يعتبر في غاية الأهمية خاصة للشركات التي تنوي تطوير منتجها من خلال تجنيد رأس مال مجازف، وهو حال معظم الشركات الناشئة، أو تلك التي تسعى لاعتماد استراتيجية Exit. ففي كلتا الحالتين، تخضع الشركة الناشئة لما يعرف بالتحري القانوني (due diligence)، وهي عملية معاينة المستندات القانونية الخاصة بالشركة من قبل الجهة المعنية، كالمستثمر أو الشركة المستحوذة (acquirer)، كشرط لإتمام عملية الإستثمار أو الاستحواذ، وذلك للتأكد من عدم وجود أي ثغرات قانونية في نشاط الشركة. هنا إذاً، تكمن أهمية الحفاظ على هذه المستندات من المراحل المبكرة لتأسيس الشركة وتوثيق الإجراءات القانونية فيها مثل قرارات مجلس الإدارة (الـ board) والمسامهين، وإدارة هذه المستندات ضمن المعايير المعتمدة.
يخطأ بعض مؤسسوا الشركات الناشئة عندما يرجؤا الحصول على الدعم القانوني إلى مراحل متقدمة من نمو الشركة لأن ذلك قد يلحق بها مخاطر قانونية حقيقية، لا سيما أن العديد من الأخطاء التي من شأنها أن تعيق نمو الشركة تحدث غالباً في مراحلها الأولى. البعض الآخر لا يلجىء للاستشارة القانونية حتى في مراحل أكثر متقدمة مثلاً في عمليات تجنيد الإستثمار، ما قد يعني تنفيذ اتفاقيات مجحفة بحق المؤسسين قد تحد من سيطرتهم على إدارة الشركة أو حتى المس بالقيمة الفعلية لأسهمهم. لذا، على الشركة أن تلجأ للاستشارة القانونية بالمراحل المبكرة للمشروع مروراً بمراحل النمو المختلفة، وذلك من قبل مستشارين متمرسين في عالم التكنولوجيا ورأس المال المجازف، مع ضرورة ملائمة الدعم القانوني مع طبيعة نشاط الشركة. فمثلاً، ما يسري على شركة ناشئة تعمل في مجال التقنيات المالية (fintech) لا يسري بالضرورة على الشركات العاملة في قطاع الموبايل أو الصحة الرقمية، وهكذا دواليك.
لا بد من التنويه بأن هنالك جوانب قانونية أخرى عديدة تتعلق بالشركات الناشئة تختلف بحسب مرحلة نمو الشركة ونوع نشاطها، وأن ما ذكر هنا ما هي إلا بعض الأخطاء الأكثر شيوعاً التي تحصل في المراحل الأولى للمشروع.
إذاً، على أي شخص مقبل على تأسيس مشروع تكنولوجي في إطار تأسيس شركة ناشئة أن يدرك أهمية تناول الجوانب القانونية للمشروع (لا سيما في مراحله المبكرة) لتجنب المخاطر المستقبلية، وأن يعي أن ذلك من شأنه أيضاً أن يساهم باجتذاب المستثمرين لمشروعه وأن يضمن تسييراً أسرع لعملية بيع الشركة ضمن استراتيجية exit مستقبلية، وبالتالي تحقيق القيمة الاقتصادية المرجوة للمشروع.
الكاتب هو محامٍ خبير في قوانين الشركات والإستثمار، ومستشار لشركات ناشئة ولمستثمرين في عالم التكنولوجيا ورأس المال المجازف.